حركة عالمية لمناهضة الفصل العنصري- دعمًا لفلسطين وانطلاقًا من جنوب أفريقيا

المؤلف: د. باسم نعيم10.31.2025
حركة عالمية لمناهضة الفصل العنصري- دعمًا لفلسطين وانطلاقًا من جنوب أفريقيا

في مدينة جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، احتضنت القاعات بين جنباتها حدثًا بالغ الأهمية، حيث انعقد "المؤتمر العالمي لمناهضة الفصل العنصري في فلسطين" على مدار ثلاثة أيام متتالية، ابتداءً من العاشر من مايو/أيار. شهد المؤتمر تدفقًا جموعًا من النشطاء الدوليين، والمدافعين الشرسين عن حقوق الإنسان، ومجموعات الضغط المؤثرة، ومنظمات المجتمع المدني الحيوية، الذين اجتمعوا تحت سقف واحد بهدف سامٍ: تأسيس حركة عالمية قوية وموحدة لمكافحة الفصل العنصري في فلسطين، مستلهمين التجربة الملهمة لجنوب أفريقيا في مواجهة نظام الفصل العنصري البغيض.

إن انعقاد هذا المؤتمر ليس مجرد إجراء روتيني أو حدثًا عاديًا، بل يحمل دلالات عميقة، خاصة بالنظر إلى المكان الذي اختير بعناية فائقة، والتوقيت الذي جاء في لحظة حرجة، والرؤية الطموحة التي يتطلع إليها. فجنوب أفريقيا تتمتع بمكانة مرموقة وسلطة أخلاقية رفيعة على الصعيد العالمي، وعندما يتعلق الأمر بمكافحة الفصل العنصري، فإنها تمتلك رصيدًا هائلاً من الخبرة والتجربة الناجحة في هذا المجال. وكل زائر يطأ أرض هذا البلد العظيم يشعر بمدى تفانيهم في دعم القضية الفلسطينية، وإحساسهم العميق بالالتزام السياسي والأخلاقي بالانخراط في هذه المعركة العادلة من أجل تحقيق الحرية والاستقلال للشعب الفلسطيني، وهذا ما يلمسه المرء لدى جميع الجنوب أفريقيين، بغض النظر عن ألوانهم أو معتقداتهم أو توجهاتهم السياسية.

أمُّ الجرائم

وفي كل مناسبة أو تجمع، يتردد صداهم بالشعار المُلهم الذي أطلقه القائد التاريخي الملهم لنضال جنوب أفريقيا، نيلسون مانديلا: "إن حرية جنوب أفريقيا لن تكتمل إلا بتحقيق الحرية للفلسطينيين". لذلك، لم تتردد جنوب أفريقيا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول في إعلان موقفها الجريء والواضح في دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه الأصيل في المقاومة بكل الوسائل المشروعة، بل اتخذت خطوات عملية ملموسة لتعزيز ذلك. ولعل أبرز هذه الخطوات توجهها الشجاع إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي لتقديم الأدلة الدامغة على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية المروعة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، وهو ما أقرته المحكمة بالفعل، وإن لم تتخذ الإجراءات الحاسمة المتوقعة لوقف هذه الجريمة البشعة، ولكنها المرة الأولى التي يمثل فيها هذا الكيان المتغطرس أمام العدالة، متهمًا بارتكاب أم الجرائم: "الإبادة الجماعية"، وتكمن أهمية هذه التهمة في أنها الركيزة الأساسية التي يستند إليها الكيان في تبرير وجوده غير الشرعي.

واليوم، تنطلق جنوب أفريقيا في مبادرة إستراتيجية جديدة ومحكمة الأبعاد، تهدف إلى محاصرة هذا الكيان المارق وعزله وملاحقته في كل مكان، وصولًا إلى تفكيكه بشكل كامل، وذلك من خلال إطلاق "الحركة العالمية لمناهضة الفصل العنصري"، التي من المتوقع أن تتحول إلى مظلة عالمية جامعة، تجمع وتنسق وتوحد الجهود الدولية المبذولة في هذا المضمار.

منذ نشأة الكيان الغاصب، لم تتوقف الحراكات الدولية المناهضة للكيان الصهيوني للحظة واحدة، وامتدت لتشمل قارات العالم الخمس، ولكنها لم تتمكن من تحقيق هدفها الأسمى بعزل الكيان وتفكيكه، على الرغم من أنها لعبت دورًا حيويًا في إبقاء الضمير الإنساني حيًا تجاه العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني وما يرتكب بحقه من جرائم بشعة. ولكن اليوم، وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول المجيد، وما تلاه من مشاهد البطولة والصمود الأسطوري من جهة، والكارثة الكبرى التي حلت بالشعب الفلسطيني نتيجة الإبادة الجماعية التي ارتكبها الجيش الصهيوني المجرم من جهة أخرى، اكتسبت هذه الحراكات زخمًا غير مسبوق، حتى إننا لا نبالغ إذا قلنا إن "طوفان الأقصى" المبارك أعقبه "طوفان بشري" عالمي لم نشهده في أي مرحلة من مراحل الصراع، ولا حتى في صراعات أخرى مماثلة.

والأهم من ذلك، أن هذا "الطوفان البشري" يتصاعد باستمرار، ويجتاح كل أنحاء الكرة الأرضية، وبكل اللغات واللهجات، حتى لغة الصم والبكم، كما رأينا في أستراليا مؤخرًا. طوفانٌ يقوده الشباب الحر المتنور والنخب الواعية، الذين أدركوا أنهم تعرضوا لعملية تضليل ممنهجة لعقود طويلة لصالح روايات وأساطير الكيان وحلفائه، وأن باسمهم وبالنيابة عنهم وبأموالهم ترتكب كل هذه الفظائع والجرائم المروعة. لذلك، اعتبروا معركة غزة ليست مجرد معركة يخوضها الفلسطينيون وحدهم، بل هي أيضًا معركتهم ضد عدو مشترك: قوى الاستكبار والظلم العالمي، ومعركة الجميع من أجل الحرية والكرامة والعدالة.

إذًا، تأتي هذه الخطوة في لحظة تاريخية فارقة، أحسن الجنوب أفريقيون اختيارها، ومن المتوقع أن يتردد صداها في كل ركن من أركان المعمورة.

ثنائية متداخلة ومترابطة

قد يتساءل البعض عن قيمة مثل هذه الخطوات في ظل نظام دولي فاسد وظالم، تهيمن عليه قوى من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، هزيمتها؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نتذكر تجارب الشعوب التي سبقتنا في فيتنام والجزائر، وهنا في جنوب أفريقيا، حيث مروا بظروف مماثلة جدًا وتعرضوا لنفس القدر من الوحشية والقهر الشديد. وفي لحظات معينة، استسلم البعض لليأس وفقدوا الأمل في إمكانية هزيمة قوى الاستبداد والقهر، خاصة في ظل التضحيات الكبيرة التي بذلت على الطريق. ولكن في النهاية، بالصبر والصمود والثبات، حققوا غايتهم في الحرية والاستقلال.

البعض الآخر قد يتساءل عن مدى جدوى مثل هذه الخطوات في ظل موازين قوى دولية تتحكم بها الصهيونية وحلفاؤها؟ لذلك، لا بد من التذكير بأن الكيان الغاصب يقوم ويستمر في البقاء اعتمادًا على ثنائية متداخلة ومترابطة، وبدونها لا يمكن لهذا الكيان أن يظل قائمًا. أولًا: قدراته العسكرية والأمنية والاقتصادية، وهذه مسؤولية الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة للتصدي لها وتحطيمها، وهذا ما بدأ بشكل مبدع ومؤثر في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، استنادًا إلى نضالات الشعب الفلسطيني الطويلة منذ النكبة.

أما ثانيًا: فهو أن هذا الكيان هو صنيعة المجتمع الدولي، وقد كُتبت شهادة ميلاده في الأمم المتحدة. ويمثل هذا الكيان لحظة التقاء استثنائية بين قوى الاستعمار الكولونيالي في الغرب والحركة الصهيونية في بدايات القرن الماضي. فالقوى الاستعمارية، التي رفضت التعاطي مع الحركة الصهيونية لفترة طويلة، وجدت أنها أمام فرصة لزرع كيان غريب في قلب المنطقة، يخدم مصالحها الإستراتيجية إذا اضطرت للمغادرة، وفي نفس الوقت التخلص من اليهود والتكفير عن خطيئتها. أما الحركة الصهيونية، فقد حققت هدفها بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

لذلك، فإن "الموقف الدولي" الداعم للكيان يأتي في إطار اعتبار هذا الكيان ممثلًا وحارسًا لمصالح الغرب الاستعماري في المنطقة، وبالتالي، فإن هذا الدعم يتجاوز حدود التعاطف أو التضامن السياسي أو الديني، ليصل إلى المستوى الذي يمثله الكيان كقاعدة متقدمة للغرب الاستعماري.

وهذا ما رصده الجميع في ردة فعل هذه القوى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول المجيد، حيث حركوا أساطيلهم وحشدوا قواتهم واستنفروا أدواتهم السياسية والإعلامية لحماية هذا الكيان وإقالته من عثرته، ولكن دون جدوى، فقد وقع الضرر الإستراتيجي، وتكشفت أوراق هذا التحالف الخبيث، وانطلقت حركة شعبية عالمية مناهضة لهذا الكيان، خاصة في محاضنه الأساسية.

مظلة عالمية

وهنا يأتي الدور المحوري لهذه الحركة العالمية التي أعلن عن انطلاقها في مؤتمر جوهانسبرغ، والتي من المتوقع أن تتحول إلى مظلة عالمية لكل أشكال التضامن الدولي، تحشد وتنسق وتنظم كل ذلك بهدف عزل الاحتلال وملاحقته في كل المحافل وعلى كل المستويات، على طريق تفكيكه ورد البضاعة لأصحابها. يجب أن يتحرك هذا النضال العالمي جنبًا إلى جنب مع كل أوجه النضال الفلسطيني، حتى يتحول هذا الكيان إلى عبء ثقيل على من صنعوه، ويضطروا إلى تفكيكه حرصًا على مصالحهم الإستراتيجية.

هل يتعارض هذا النضال العالمي مع المقاومة بكل أشكالها، وفي مقدمتها المقاومة المسلحة؟ بالتأكيد لا، لأن كل قصص النجاح للشعوب في مناهضة الاستعمار والعنصرية دمجت بين كل هذه الأشكال في إطار رؤية إستراتيجية واحدة يعزز بعضها بعضًا. وهنا، من الجدير بالذكر أن من أكثر ما سمعناه في المؤتمر من الجنوب أفريقيين هو أن نضالهم ضد نظام الفصل العنصري ارتكز على أربع أدوات أساسية: المقاومة الشعبية، والتنظيم السري، والمقاومة المسلحة، والتضامن الدولي، وكلها سارت جنبًا إلى جنب في تناسق وانسجام كاملين، وعززت إحداها الأخرى.

وأعتقد أننا كفلسطينيين بحاجة ماسة لاقتناص هذه الفرصة الإستراتيجية الثمينة التي قدمها لنا "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول المجيد، لإعادة ترتيب أوراقنا وإرجاعها إلى سيرتها الأولى، عندما تحركت كل أدواتنا النضالية في بداية انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وفي القلب منها المقاومة المسلحة، جنبًا إلى جنب بانسجام وتكامل ضمن رؤية إستراتيجية واضحة، وأداء قيادي وطني شامل وواع بكل أبعاد المعركة وضروراتها.

للأسف الشديد، فإن نضالنا الوطني أصيب بضربة قاصمة أفقدته توازنه، عندما تم توقيع اتفاقية "أوسلو" المشؤومة، حيث أُسقطت معظم أدواتنا النضالية الإستراتيجية لصالح أداة تكتيكية واحدة، وهي: "المفاوضات"، وحتى تتعمق الكارثة، فعندما حصل الانتقال القيادي الإجباري بداية القرن، تعمقت الأزمة أكثر، حيث تم بشكل ممنهج محاصرة كل الأدوات الأخرى وقمعها وملاحقة كل من يحاول إحياءها، فكانت الكارثة الوطنية التي نحياها اليوم، والتي أسست لكل الخطط الصهيونية لشطب القضية الفلسطينية، بل ومكنتها.

خطوة على الطريق

السابع من أكتوبر/تشرين الأول المجيد أعلن بحق انتهاء هذه المرحلة المأساوية من تاريخ الشعب الفلسطيني، وفتح الأبواب على مصراعيها لإعادة ترتيب الصفوف من جديد، وتفعيل كل الأدوات النضالية بزخم ثوري معمّد بدماء آلاف الشهداء والجرحى، ومستندًا إلى هزيمة إستراتيجية لحقت بالعدو الصهيوني، بغض النظر عن مآلات هذه الجولة.

ختامًا، يمثل مؤتمر جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا وإطلاق الحركة العالمية لمناهضة الفصل العنصري خطوة جبارة على طريق حشد الطاقات العالمية في مساندة نضال الشعب الفلسطيني المشروع من أجل الحرية والاستقلال، ولكن هذه الخطوة تعتمد بشكل كبير على وحدة الموقف الفلسطيني، وإفساح المجال لهذه الطاقات والمبادرات العالمية للمشاركة الفعالة في هذه المعركة المقدسة من أجل القضية العادلة، لا سيما أن الكثيرين حول العالم يعتبرونها معركتهم الوطنية، باعتبار العدو مشتركًا.

لذلك، يجب علينا كفلسطينيين أن نكون أول من يحتضن هذه المبادرة المباركة ويدعمها بكل قوة، وأن نجنبها أي تجاذبات أو حسابات شخصية أو فصائلية ضيقة، لأن أوضاعنا الداخلية الفلسطينية المؤسفة ألقت بظلالها السلبية على الحراكات الدولية التضامنية وأضعفتها في كثير من الأحيان، بل وأجهضتها في أحايين أخرى.

إن انطلاق قطار النضال الدولي من أجل فلسطين من جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا في محطته الأولى، هو بشرى خير بكل ما تحمله هذه البلد من رمزية وسلطة أخلاقية في هذا المجال تحديدًا.. سيصل القطار حتمًا إلى محطته النهائية، وسنحتفل جميعًا بتفكيك نظام الفصل العنصري، كما احتفلت جنوب أفريقيا من قبل، وقريبًا بإذن الله.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة